فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها أنها محكمة ناسخة للعفو عن المشركين. القول الثاني: إنها منسوخة لأن فيها وجوب الجهاد على الكافة ثم نسخ بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} القول الثالث: إنها ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه فالناسخ منها إيجاب الجهاد مع المشركين بعد المنع منه، والمنسوخ إيجاب الجهاد على الكافة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبد الله بن جَحش كما يأتي، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله: {كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183]، {كتب عليكم القصاص} [البقرة: 178]، {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} [البقرة: 180]. فعلى المختار يكونُ قوله: {كتب عليكم القتال} خبرًا عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله: {وهو كره لكم} الآية، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده، أو إنشاءً أُنُفًا لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} إذْن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له. اهـ.

.قال القرطبي:

ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس وفصدٍ وحِجامةٍ ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدقٍ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والكره بضم الكاف: الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكَره بالفتح على الأصح، وقيل: الكُره بالضم المشقة ونفرة الطبع، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل مَّا بأذى أو مشقة، وحيث قرئ بالوجهين هنا وفي قوله تعالى: {حملته أمه كرها ووضعته كرها} [الأحقاف: 15] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العُقَيلي:
بكُره سراتنا يا آل عمرو ** نُغاديكم بمُرْهَفَة النِّصَال

رووه بضم الكاف وبفتحها.
على أن قوله تعالى بعد ذلك {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم} الوارد مورد التذييل: دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئيًا من جزئيات أن تكرهوا شيئًا.
وقد تحمل صاحب (الكشاف) لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الأخرى على المجاز، وقرره الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول الخنساء:
فإنما هي إقْبَالٌ وإدْبَار

أي تُقبل وتُدبر.
وقيل: الكُره اسم للشيء المكروه كالخبز. فالقتال كريه للنفوس، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذَّاته ونومه وطعامه وأهله وبيته، ويلجئ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح، ولكن فيه دفع المذلَّة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم، وفي الحديث: «لا تَمَنَّوْا لِقَاء العدوّ فإذا لقيتم فاصبروا» وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال العُقَيلي:
ونَبِكي حينَ نَقتُلكم عليكم ** ونَقتلكم كأنَّا لا نُبالي

ومعلوم أن كراهية الطبع الفعلَ لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة.
ثم إن كانت الآية خبرًا عن تشريع مضى، يحتمل أن تكون جملة: {وهو كره} حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلًا عليهم، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كَرِهوا الصلح واستحبوا القتال، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيرًا لهم بأن الله أعلم بمصالحهم، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال، فحذف ذلك لقرينة المقام، والمقصود الإفضاء إلى قوله: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم} لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر، ويكون في الآية احتباك، إذ الكلام على القتال، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حِبٌّ لكم، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبه: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} [البقرة: 217]. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان هذا مكروهًا لما فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقة وعلى الروح من الخطر من حيث الطبع شهيًا لما فيه من الوعد بإحدى الحسنيين من حيث الشرع أشار إلى ذلك بجملة حالية فقال: {وعسى أن} وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة براءة من شرح معاني {عسى} ما يوضح أن المعنى: وحالكم جدير وخليق لتغطية علم العواقب عنكم بأن {تكرهوا شيئًا} أي كالغزو فتعرضوا عنه لظنكم أنه شر لكم {وهو} أي والحال أنه {خير لكم} لما فيه من الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة فإنكم لا تعلمون والذي كلفكم ذلك عالم بكل شيء غير محتاج إلى شيء وما كلفكم ذلك إلا لنفعكم. قال الحرالي: فشهد- لهم لما لم يشهدوا مشهد الموقنين الذين يشاهدون غيب الإيمان كما يشهدون عن الحس، كما قال ثعلبة: «كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وأنظر إلى أهل النار في النار يعذبون» ولم يبرم لهم الشهادة ولكن ناطها بكلمة {عسى} لما علمه من ضعف قبول من خاطبه بذلك، وفي إعلامه إلزام بتنزل العلي الأدنى رتبة لما أظهر هذا الخطاب من تنزل الحق في مخاطبة الخلق إلى حد مجاوزة المترفق في الخطاب- انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم} تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشيء عن قوله: {كتب عليكم القتال وهو كُره لكم}، لأنه إذا كان مكروهًا فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك.
وجملة: {وعسى} معطوفة على جملة: {كتب عليكم القتال}، وجملة: {وهو خير لكم} حالية من {شيئًا} على الصحيح من مجيء الحال من النكرة، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين، وإن كان سبحانه غنيًا عن البيان والتعليل، لأنه يأمر فيُطاع، ولكن في بيان الحكمة تخفيفًا من مشقة التكليف، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته، إذ يكره الطبع شيئًا وفيه نفعه وقد يحب شيئًا وفيه هلاكه، وذلك باعتبار العواقب والغايات، فإن الشيء قد يكون لذيذًا ملائمًا ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك، وقد يكون كريهًا منافرًا وفي ارتكابه صلاح. وشأن جمهور الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلهما، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار العواقب والغايات. اهـ.

.قال الفخر:

معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقًا عليكم في الحال، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد، ولأجله حسن شرب الدوا المرء في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل، وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى، وهاهنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل، وصون المال عن الإنفاق، ولكن فيه أنواع من المضار منها: أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصة بلادكم وحاول قتلكم فأما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم، وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح، وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء، ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطرًا إلى تحمل أضعاف تلك النفرة والمشقة، والحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن، وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت، ومنها وجدان الغنيمة، ومنها السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء.
أما ما يتعلق بالدين فكثيرة، منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقربًا وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله، ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين، ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله، ومنها أن من أقدم على القتال طلبًا لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله، وما لم يصر الرجل متيقنًا بفضل الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين، وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا، وذلك من أعظم سعادات الإنسان.
فثبت بما ذكرنا أن الطبع ولو كان يكره القتال من أعداء الله فهو خير كثير وبالضد، ومعلوم أن الأمرين متى تعارضا فالأكثر منفعة هو الراجح وهذا هو المراد من قوله: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما رغبهم سبحانه وتعالى في الجهاد بما رجالهم فيه من الخير رهبهم من القعود عنه بما يخشى فيه من الشر. قال الحرالي: فأشعر أن المتقاعد له في تقاعده آفات وشر في الدنيا والآخرة ليس أن لا ينال خير الجهاد فقط بل وينال شر التقاعد والتخلف- انتهى. فقال تعالى: {وعسى أن تحبوا شيئًا} أي كالقعود فتقبلوا عليه لظنكم أنه خير لكم {وهو} أي والحال أنه {شر لكم} لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر وليس أحد منكم إلا قد جرب مثل ذلك مرارًا في أمور دنياه، فإذا صح ذلك في فرد صار كل شيء كذلك في إمكان خيريته وشريته فوجب ترك الهوى والرجوع إلى العالم المنزه عن الغرض ولذلك قال عاطفًا على ما تقديره: فالله قد حجب عنكم سر التقدير {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يعلم} أي له علم كل شيء وقد أخبركم في صدر هذا الأمر أنه رؤوف بالعباد فهو لا يأمركم إلا بخير.
وقال الحرالي: شهادة بحق العلم يرجع إليها عند الأغبياء في تنزل الخطاب- انتهى.
والآية من الاحتباك ذكر الخير أولًا دال على حذفه ثانيًا وذكر الشر ثانيًا دال على حذفه مثله أولًا.
ولما أثبت سبحانه وتعالى شأنه العلم لنفسه نفاه عنهم فقال: {وأنتم لا تعلمون} أي ليس لكم من أنفسكم علم وإنما عرض لكم ذلك من قبل ما علمكم فثقوا به وبادروا إلى كل ما يأمركم به وإن شق. وقال الحرالي: فنفى العلم عنهم لكلمة لا أي التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} [الإسراء: 85] قال من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون أي الراسخون فقد علمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شر لهم- انتهى. حتى أن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب، «حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر» فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليّ أيها الناس! فقال سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله تعالى عنه: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك! ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا! إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى». اهـ.